الفقير الأول
لم تكن طفولتنا تختلف كثيراً عن طفولة أبناء حارتنا، وكانت أمور الحياة تعبر عنها والدتي (رحمها الله) بالمستورة، ولم ننم ليلة واحدة بالجوع، ولم تكن هناك فواكه تدخل السوق لم نتذوقها، وأما اللحم فكان ضيفاً ليس رئيسياً على وجباتنا.
فكانت أمي تتدبر حياتنا بشكل لا نشعر معه بأننا نخسر شيئاً موجوداً عند الآخرين. كانت حياتنا تتسم بالألفة بيننا وبين أبناء الجيران، ولا شك أن كثيرين كانوا يغبطون حياتنا التي تميزت عن الآخرين بأمور كثيرة منها أن والدي كان يتلقى حوالات شهرية من أبنائه الذين يعملون في الخليج، وكان بيتنا فيه حديقة يحرص والدي على زراعة الورود فيها، ولذا كان الجيران يطلبون منا باقات ورد تزين أفراحهم، إذ لم يكن قد شاع أيامها وجود محلات بيع الأزهار كأيامنا هذه، وحتى لو كانت موجودة لم يكن بمقدور الناس أن يشتروا تلك الباقات.
وكنا كذلك محظوظين في نوعية الإنارة في البيت، ولا يتبادر إلى أذهانكم أننا استمتعنا بالكهرباء دون الآخرين، لا بل كنا جميعاً لا نعرف الكهرباء ولكن كنا نستخدم مصابح الكاز، وأما بيتنا فكان فيه ما يعرف باللوكس وهو مصباح إنارة قوي، لم يكن هذا النوع منتشراً في جميع البيوت، فالمحظوظون هم الذين يمتلكونه وكنا نحن من هؤلاء، ولذا كان هذا اللوكس أيضاً مجالاً للإعارة وخصوصاً في مناسبات الأفراح والأتراح.
وكان لدينا مذياع، نعم مذياع يعمل على بطارية سائلة مثل بطاريات السيارات، وله أنتين فوق السطح، وحينما تطورت صناعة المذياع، وتم اختراع الراديو ذي البطارية الجافة، كان بيتنا من أوائل البيوت التي اقتنته ، ولذا كان أبي وهو بطبيعته شخصية اجتماعية وكريمة ومتحدثاً لبقاً، كان ذا مركز يحسب له حساب في الحارة، كان إذا شئت يمكنك القول أنه مختار الحارة ووجيهها، ولذا كان رجال الحارة يجتمعون في المقعد الذي خصصه والدي للضيافة ليستمعوا للأخبار وخصوصاً لأحاديث أحمد سعيد بصوته الجلي من إذاعة صوت العرب، وفي يوم الجمعة كانوا يلتفون حول المذياع ليسمعوا قراءة مقالة بصراحة لمحمد حسنين هيكل التي تنشرها جريدة الأهرام.
وكنت أستمع إلى نقاشاتهم الحامية، إذ كان بعضهم يرى أن القومية هي الحل ، وآخر ون يرون أن الإسلام هو الحل ، والبعض الآخر يرى أن الأممية هي الحل.
بعيداً عن ذلك كله كنت أستمع إلى أحاديثهم وهم يشربون القهوة السادة التي يقوم والدي بإعدادها بنفسه على كانون النار.
كانت أحاديثهم تنصب على الأسر الفقيرة وكيف يساعدونها دونما إحراج لها، كانوا يتحدثون عن أسر لا يوجد لديها كساء للشتاء ولا نار للتدفئة، ولا طعام للعشاء، وهناك من لم يتذوق طعم الفاكهة ولا يأكل اللحمة في السنة إلا مرات قليلة.
كل ذلك لم يكن بالنسبة لي أمراً يمكن تصوره هلمن المعقول أن يوجد إنسان على هذه الأرض وهو يفتقر إلى هذه الحاجات الأساسية .... هل هناك فقر إلى هذه الدرجة ؟
وكان ذات يوم أدركت فيه معاناة الفقر لدى الآخرين ومعاناة الحرمان لدى البعض، ما زالت الصورة لما جرى ماثلة أمامي، وكأنها تحدث الآن، خرجت من البيت وبيدي تفاحة، ووقفت مستنداً إلى سور بيتنا، وفي اللحظة التي رفعت التفاحة إلى فمي، كانت يد بلمح البصر تخطف التفاحة من يدي، نظرت إلى من خطفها كان رجلاً في أواسط العمر والتهم التفاحة بثوانٍ وأنا مذهول لما جرى، كان الرجل زبال الحي، آنئذ أدركت معنى الفقر ومعنى أن تكون التفاحة رمزاً للحرمان والجوع....
الفقير الثاني :
لم يكن ينقصه شيء يأكل التفاح والفواكه المستوردة، ويركب سيارة فارهة، ومرتبه يزيد على مرتب نصف دستة من دكاترة الجامعة... رصيده في البنك كان رقمه كبيراً حينما يمر من أمامه شخص لا يتوانى عن نقده، ولا يكف عن الشكوى، وهو شخص مدعي الفهم إذ يرى أنه لا يوجد مثيل له على البسيطة.
يتحاور مع أحد زملائه عن القيم وتظنه حارس القيم الأصيلة.
ماذا كان يعني أن تكون صديقاً له، ليس هناك من شيء سوى المصلحة، ولذا كان يزاحم الآخرين على مواقعهم كان يستغل أحد زملائه من رفيعي الشأن صاحب المكانة المرموقة، والخلق الرفيع الذي يناى عن صغائر الأمور، ويشعر من داخله بالتزام أدبي وأخلاقي نحو زملائه فلا يتوانى عن مساعدتهم دون أن ينتظر منهم شيئاً.
صعد نجم الفقير الثاني ليس لأنه أفضل زملائه في تخصصه، ولكنه كان أكثر إلحاحاً وطلباً للمزيد، حتى لو كان ما سيأخذه هو من حق الآخرين.
تساءلت عما يريده أكثر مما حصل عليه، هل هناك يريد نجاحا في حقله أكثر مما وصل إليه؟ ولكن التساؤل كان دوماً عن نوع الغنى الذي يبحث عنه، أي غنى يريد؟، كانت معاملاته مع الآخرين فيها تعالٍ ونزق وإدعاء بالمعرفة، ومن ثم حينما غادر موقعه المتميز كرئيس لإحدى المؤسسات الكبيرة ، غادره وهو غير مأسوف عليه، ولكنه ظل يعتقد أو يوهم نفسه ويوهم الآخرين بأنه شخص زاهد، لأنه إنسان لا يطمح إلى شيء.... ولكن هل كانت هذه هي حقيقته ؟؟
تجلى الموقف واضحاً عند اختبار بسيط حدث بينه وبين أحد زملائه، لم تكن لدى زميله أدنى صورة عن معاني الفقر الروحي والأخلاقي المتلبسة لشخصية الفقير الثاني ، في حديث ودي قام زميله بإبلاغه عن وظيفة تم ترشيحه لها ، وابتدأ الفقير الثاني بالإدعاء بأنه صديقهم ويعرفهم تماماً، والتقاهم في غير مناسبة . وظن زميله أن ذلك سيكون لصالحه ، إذ يمكن أن يقوم بدعمه وتعزيزه لديهم ، ولكن ما أن غادر الفقير الثاني مكتب زميله حتى بادر بمهاتفة من ظن أن له علاقه بترشيح زميله لهذا المنصب ، ليعرض نفسه بديلاً عنه لملء الوظيفة، مدعيا بأنه في مأزق مالي بعد ترك وظيفته ، ومن ثم فهو أجدر بهذه الوظيفة .
وظن الشخص الذي اتصل الفقير الثاني به أنه مسكين وفقير إلى درجة الشفقة والحاجة للمساعدة، وتساءل عن دخله الشهري ، وعرف بعد ذلك أن دخل الفقير الثاني الشهري رقم لا يحصله ستة دكاترة جامعيين حديثي التخرج.
ومن ثم قال عنه حقاً يا له من فقير في الروح والضمير.