الأشياء هنا تبدو متشابهه ، الجدران الضخمة والخشنة والأسرة المتراصة ذات الطلاء الكئيب المتشقق وهؤلاء الأشباح دون سن الثامنة عشرة بألبستهم الزرقاء الباهتة , تتشابه الديباجات على صدورهم و حتى رؤسهم الحليقة تتشابه وهو نفسه صوت الأنين المكتوم من سلم الخشب الخارجى المؤدى الى عنبرنا فى كل مرة يصعد عليه شقى مسرعا الى داخل العنبر فيئن لاعنا ً وساخطا ً
لاشئ مختلف سوى صمتى فالكل يثرثر ولكن !!! حتى الصمت عندى يتشابه
لماذا أنت هنا ؟
سؤال مكرر ومتشابة أيضا وذات الصمت
يصيح أحدهم بصوت جهورى لا حياة فيه
عنبر ثمانية ..أررررفع التمام
تراتيبة الأسماء تتشابة هى الأخرى
لا هروب ..العدد كامل نفس الصوت وبنفس الوتيرة
ذات الحركات وذاتها الألفاظ النابية أسمعها كل يوم مع طلوع ذات الشمس وغروبها لا جديد ..حتى غيوم السماء من فوقنا فى أيضا ًتتشابه . الأولاد بعضهم يتحرش ببعض وبعضهم يصدر صوتا غليظا متصنعا من حنجرته الرقيقة إمعانا فى الرجولة ويضع يدية على مناطقة الحساسة بإستمرار ويتلفظ بفجور وزغب شاربيه الخفيف يفضح سنوات عمره الثمانية عشر .
يعود نفس الصوت الممطوط كل صباح
إصلالالالالالالاحية أرررفع التمام
لا هروب سيدى ...
وحدى أنا الذى أهرب بخيالى الى الخارج الى هناك حيث كنا نتنشق هواء نقيا ً ونعانى قسوة البادية وحُنوها إلى حيث بدأت أدرك لأول مرة أن شيئا ما بدأ يتغير من حولنا ، مضارب العرب وخيامهم بدأت تتناقص ولا يعودون فى كل عام كعادتهم وضرع الماشية الذى صارفارغا ولون الحشيش الشاحب
قال أبى وهو يلوك سواك الأراك ويبصق سائلا ً كثيفا ً
المطر فى الأعالى أ صبح شحيحا ، صا ر الكلأ سببا للعراك علينا أن نتجه صوب الوادى البعيد .. هناك الكثير من الماء والثلج والكهرباء ..
سألت أبى ماذا تعنى كهرباء ؟
قال لا أعرف ولكنها شئ جيد
بدأت أدرك أن أراضى مضاربنا الواسعة صارت تخبئئ خيرها فى جوفها وتبخل به وأن المطر يخاصم أرضنا لسوء ما فعل البشر فيها وأن الشر حل هنا يريد أن يسرق شجرها وترابها ويصادر حتى الحرباء ويصيد غزلانها ليكتب شعرا فى جمال عيونها ..هكذا يقول لصوص مضاربنا
مازال جدى ممسكا بمسواك الأراك الذى أصبح أحد معالم وجهه وهو يقول
- الناس فى شمال مضاربنا البعيدة يهينون الخيل ويصنعون لها صناديق تجرها ..يقول مستنكرا وعيناه تتجه نحوى
- أياك أن تضع صندوقا خلف الخيل فالخيل تجر الريح خلفها ولا شئ سوى الريح ورفعنى على ظهر حصانه العارى وضرب فخذ الحصان بباطن كفه فإنطلق كالسهم وخلفى زغاريد امى وتعليقاتها
- ها قد أصبحت فارسا ً يا بنى
مارست دورى كفارس ناشئ فأخذ ذلك من راحتى الكثير، فصرت أجمع قطعأ من روث البقر الجاف وأعواد القصب كل صباح لصنع الشاى ولتصنع لنا أمى حساء أحشاء الماعز وعصيدة الذرة والدخن وأجتهد فى أن أظهر مهارتى لأمى وأنا أقوم بصر حلمات الضأن بمخلفاتها الرطبة بعد عجنها بالطين فتعاف صغارها ثديها فنشرب لبناً سائغا عند المغيب .
ساق أبى قطيع الضأن والماعز وبقراتنا الخمس الى أسفل الوادى رغم تحذيرات جدى بأن أسفل الوادى البعيد صار خطرا ً
لم يعد أبى هذه المرة ، قتله الملثمون الراكبون على الخيول وذبحوا حصانة وصادروا الماشية وهناك فى سوق المدينة الكبيرة بالقرب من المصنع القديم المخيف باعت أمى أقراطها وخلاخل الفضة وأساور العاج ووعاء الحليب الكبير وسرج أبى وحدوة الحصان لنرحل الى شمال المضارب البعيدة فقد وردت الأنباء أن الملثمين الراكبين على الخيول قادموت الى( قولو) و(كادنوقا) عبر مضاربنا وأصر جدى على أن الملثمين الراكبين على الخيول محض هراء
الى اليمين دُر....
مضارب الخيام هناك لا تشبه هذه العنابر هذا إختلاف آخر أسعد بأكتشافه فهناك يهاجم الهواء الجهات الأربع وهنا يقهر الهواء عنوة ولا يتسرب الا عبر الشقوق الضيقة
الى اليسار دُر
لامعنى لهذة الحركات التى حفظناها وظللنا نفعلها بديناميكية بغيضة وهذا المكان يسرق أحلامنا واسأل نفسى كل يوم
متى وصلت الى هنا ؟...ربما بعد رحلينا بأسبوع أو بشهر لست اذكر ما اذكره هو اننا تركنا دار مضاربنا وراءنا ولصوصها يتصارعون على بيوت النمل الخاوية ويسرقون خلايا النحل البرى فيسيل العسل على صدروهم التى يقتات منها الذباب . إتجهنا أسفل الوادى الكبير ..
الطريق الى (كادونقا ) المدينة الكبيرة كان شاقاً ولكنى على الأقل سوف أعرف من هو الكهرباء ..
(كادونقا) أيضا لم تعد آمنه فالراكبون على الخيول سيقاتلون جيش الحكومة هناك وكل من يحمل عصاة غليظة .وأسفل الوادى البعيد لم يعد بعيدا فقد جاوزناه ليلاً ودفعت أمى ثمن ما باعته فى كادونقا لأجل ان نتجاوز ما وراء الوادى البعيد الى الأمان .
أنا وهى وجدتى .
لم تحتمل جدتى (هز) اللورى على جسدها النحيل فتداخلت أحشائها باللحم الرقيق على بطنها وثديها الفارغ ولاشئ ينضح بالحياة فى وجهها سوى زمام أنفها الكبير فدفناها فى الطريق بالقرب (فوجلو ) ورفضت أمى ان تاخذ ثوب جدتى وأصرت على أن تدفن فيه ولكنها أخذت نعلها وزمام الفضة ولا شئ آخر
التصق ذو الشارب الرمادى بجسد أمى وأخذ يتنهد بصوت مكتوم وفتح مسام أنفه عن آخرها وهو يدعى النوم ، فحشرتنى أمى فى الوسط وساعدتنى وعورة الطريق فى ان أنزلق متوهطا المساحة الضيقة بينما تهمس أمى فى اذنى
- هية يا بنى صرت فارساً
أطراف المدينة الكبيرة تلهب وجوهنا بالحر والغبار والعطش
سألت أمى ...
- الكهرباء ما شكلها ؟ ...
أمى لا تعرف كل شئ
أطلقت علينا المدينة أسم النازحين .
توغلت أمى الى داخل المدينة تفعل أشياء لم تكن تعتادها وتعود آخر النهار تحمل التعب على جسدها ورائحة دخان محروق ولكنها طيبه وبقايا بعض الموائد الفارهه أمى لم تعد تأنف خدمة الأغراب ولا إلتصاق الشوارب الرمادية بجسدها ولم تدعونى فارسها مرة أخرى ...
مالذى جاء بك الى هنا ...
تعالى الهمس من حوالى ...فهربت الى أعماقى الخشنة كتلك الجدران وهناك رأيت أبى وعلى فمه مسواك الأراك وبقراتنا الخمس وسفح الجبل البعيد الذى أصبح جافا وأمى تغرق فى وحل المدينة وأنا أهرب مقيدا الى المجهول .